لم أتنقل بين دفتي الكتاب فأتحسس الأوراق بل كانت قراءتي الكترونية، وهذا ما أفقدني جزء من اللذة أثناء القراءة !
لاضير ..!
سأعترف باستمتاعي بالعذاب المذاب في ثلاثةٍ وستين صفحة .. وسأعترفُ بمجموعة الدمع الذي صاحبني ذات كلمات .. وسأعترفُ بالألم المنسوج بطريقةٍ غير عادية !
أنا لم أكن أقرأ .. !
بل كنت ألتهم وجعًا ذو نكهةٍ حارقة كحرارة شمس أغسطس التي تلسع أجساد القابعين تحتها ، ليتها كانت شمس أغسطس وحسب، بل كانت سياط حارقة من نوع آخر !
التهمتُ أصنافًا متعددة من كل شيء ، كان يتصاعدُ منها بخار الموت وتنتشرُ في الفضاء رائحة الدم الممزوجة بحبات الرمال القرمزية!
التهمتُ حرمانًا تجسد في قصة ناديا صاحبة العينين الواسعتين ذواتا الأفق البعيد، وشعرها المنثور كـ فروة ثمينة كما يصفها -غسان كنفاني- صاحبُ الكتاب . والتهمتُ في المقابل.. معنى الحياة .. و قيمة الوجود !!
والتهمَ خيالي صورًا لجدول الموت، وأنهار الدم التي ظلت تلاحق ذاك الأسود الصغير المدفون تحت التراب دون أن يدري عنهُ أحد، ذلك الكائن البشري الذي حملَ في جوانحه نورٌ أبيض لم يكن لينطفئ وحملَ معه أظافره سلاحًا وحيدًا يحفرُ بها الصخر والحديد، يتنفس أكوام التراب، ويأكل التراب ويشرب عصير التراب !
ويدوسهُ الرائح والغاد دون أن يموت ..! إلى أين يذهب وأي أفقٍ يراه وكل ماحوله تراب؟! أي حياةٍ يرتجيها ؟!
إنه الصمود .. !!
تذوقتُ مر الوحدة في اجتماعٍ العائلة الصغيرة على شرف مائدة الظلام، كان يغرق الواحد منهم بدموعه دون أن يراه أو يشعر بذلك أحد ..! كانَ الجوع يطاردُ طفولة الصغار..! ويحملُ أجسادهم الصغيرة إلى الجبل ، حمايةً لوالدهم من الموت الذليل !!
الموت الذي رسمته صورة السلاح القريب من برتقالة يابسة .. !
والحياة التي أعلنت نفسها بمقابل الهجرة عن أرض البرتقال الحزين ..!
الحديث عن الموت .. لم يكن بتلك الصعوبة ، لم يكن بذاك المقدار من الرهبة !
كانَ يصفهُ أحدهم بـالموج الذي يقذف جرادة كانت تمضي ضمن أسراب الجراد نحو الشاطئ فتكون الضحية !
تمامًا كموت الشاب قصير القامة نحيل الجسد .. معروف !
إلا أنّ جرادة حاولت إثبات وجودها حين قدمت في نهاية مطاف حوارٍ ما بين شابين كما يقول أحدهما : (فحطت على الصخرة أمامنا .. ومد صاحبي كفه كي يلتقطها ، ولكنها طارت باندفاع مفاجئ متجهة بإصرار فتي نحو المزارع الخضراء الممتدة خلف الرصيف ! )
اللاجئون الفلسطينيون هم رحمةً أحيانًا حين يموتُ واحدٌُ منهم، ونقمة أحياناً أخرى حين يحاولون استرداد كل شيء حتى التراب الذي كانوا يمشون عليه .. إنها حياة المفارقات !
ثم يصف غسان حالة اللاجئ الفلسطيني أنه أصبح :
كفرد / مجرد خنزيز، وكجماعة/ حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وزعامية !
بحق ..أجد صعوبة في الكتابة عن هذه المجموعة القصصية المتفردة بسبكها وحبكها !
فقد تنقلتُ بين حقولٍ مزروعة بألوان من المفارقات ، حياة وموت ، بذلٌ وتضحية ، نورٌ وظلمة ، آفاقٌ وسجون ، جوعٌ وشبع ، طفولة وكهولة !
علي ، وأبا علي ، مصطفى ، وأبا عثمان ، ودلال ، وفاطمة ، وناديا ، ومعروف وأسماءٌ أخرى جسدت تفاصيل الحكايا ..!
هنا قطافٌ يسير من الوجع :
* حياتنا كلنا ، خطًا مستقيمًا يسير بهدوء وذلة، إلى جانب خط قضيتي ، ولن الخطين متوازيين ولن يلتقيا !
*لم يكن يظن لحظة واحدة أنه قريب من الموت قرب أنفه من الهواء، لم يكن يظن ذلك قط .. كل الطريق كانت تعبق بحياة بكر كأنها خلقت لتوها ، كأن الله صنعها الآن فحسب ليستنشقها ، وليتركها تغسل صدره مثل شلال الريش ..
*يقول معروف : الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب ، أليس كذلك ؟
يقضي نصفها في النوم .. بقي ثلاثون سنة .. اطرح عشر سنوات مابين مرض وسفر وأكل وفراغ .. بقي عشرون .. إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة حمقاء .. ومدارس ابتدائية .. لقد بقيت عشر سنوات .. عشر سنوات فقط ، أليس جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة ؟
*" إن حياة بعض الناس كالشريط السينمائي العتيق الذي تقطع ، فوصله فنان فاشل من جديد بصورة خاطئة .. لقد وضع النهاية في الوسط ووضع الوسط في النهاية .."
*أنا أعرفُ ما الذي أضاع فلسطين .. كلام الجرائد لاينفع يابني ، فهم أولئك الذين يكتبون في الجرائد يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرفٍ واسعة فيها صور ، ومدفأة .. ثم يكتبون عن فلسطين ، وعن حرب فلسطين ، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها ، ولو سمعوا ، إذن لهربوا إلى حيث لا أدري ، يابني ، فلسطين ضاعت لسبب بسيط جدًا ، كانوا يريدون منا – نحن الجنود – أن نتصرف على طريقة واحدة، أن ننهض إذا قالوا انهض وأن ننام إذا قالوا نم ، وأن نتحمس ساعة يريدون منا أن نتحمس، وأن نهرب ساعة يريدوننا أن نهرب .. وهكذا وقعت المأساة .. وهم أنفسهم لايعرفون متى وقعت ! إنهم لم يعرفوا قط كيف يقودون جنودهم .. كانوا يحسبون أن هؤلاء الجنود ضرب طريف من الأسلحة.. تحتاج إلى حشو .. صاروا يحشونها بالأوامر المتناقضة، كان الواحد منا يحارب اليهود فقط لأنهم يريدون أن يحاربوا اليهود !
إن المسئولين لم يحافظوا على أبطالهم .. ولم يكونوا على معرفة بأي أصول للمعارك .. لقد استشهد القائد مع رفاقه !
ا. هـ
آنَ لي الآن أن أتنفسَ الصعداء !!
ويبدو أني سأعود إلى تلك الصفحات اليسيرة والعميقة مرة أخرى .. لأتعلم المزيد ...!! وأكتب المزيد !! وأتذوق المزيد والمزيد ..!!
منقول
الموت في عمق أرض البرتقال الحزين حياة أُخرى
ردحذفكان للكنفاني أن يتنبأ بها وحده،
هذه خلاصة الغربة وتلك الضمانات التي تُقدمها لهذا الشعب اللاجئ على حدودِ الحياة..